mardi 17 février 2015

الهيمنة العثمانية

على الوطن العربي
جدل السلفية السياسية
في محاضرة ألقيت في جامعة
Fort Colins
 بولاية كولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية في صيف 1993م، تحدث محاضر سلفي عن قيادة الأتراك للدولة الإسلامية حين عجز العرب عن الإستمرار في تلك القيادة، مشيرا إلى أن العثمانيين لم يكتفوا بتوحيد عرى ما انفصم من أجزاء الإمبراطورية الإسلامية، التي جزءها الفاطميون والحمدانيون والسلاجقة والقرامطة وأسرة الخان والصفويون والمماليك، وكثير من هؤلاء عرب أقحاح لا يمكن لأحد أن يشكك في "أصالتهم"، بل اتجهوا شرقا وغربا مواصلين الفتوحات التي بدأها الخلفاء الراشدين واستمرت في العصرين الأموي والعباسي، داعين أمم الأرض إلى عقيدة الإسلام.. وأن هذه الحضارة استمرت مدة تزيد على الخمسمائة سنة، ولم يعرف عن المسلمين العرب، طيلة تلك الفترة، أن نظروا إلى سلطة الأتراك على أنها احتلال أجنبي لأقطارهم كون أولئك الحكام والسلاطين ليسوا من العرب، وإنما نظروا إلى السلطنة باعتبارها دولتهم. ولذلك اندفع شباب مصر، فلاسفة ومفكرين، صناعا ومهندسين بالآلاف لبناء العاصمة الجديدة للدولة العثمانية، القسطنطينية، باعتبارها عاصمة دولة الإسلام. وقد أدرك الشريف بركات، حاكم الحجاز مدى ارتباط المسلمين بهذه الدولة، فأرسل مفاتيح الكعبة المشرفة للسلطان العثماني سليم الغوري عن طيب خاطر، وعن رغبة صادقة في أن يكون جزءا من الإمبراطورية الإسلامية القوية الكبرى.

وفي نفس الإتجاه، تؤكد أدبيات الفكر السلفي أن الحكم العثماني كان استمرار للخلافة الإسلامية، بعد سقوط الدولة العباسية. وتدين تلك الأدبيات الثورة العربية التي قادت، في الربع الأول من القرن العشرين، استقلال الوطن العربي عن الحكم العثماني، معتبرة سقوط السلطنة العثمانية خسارة للإسلام والمسلمين، دون الإلتفات إلى ما مارسته هذه الدولة من إرهاب

وطغيان. كما تدين تلك الأدبيات الإنقلاب الذي قاده الإتحاديون، واتجاهات العلمنة التي تبنتها الدولة التركية، إثر القضاء على السلطنة العثمانية.

فالإمام الشيرازي يقول: "إن حزب الإتحاد والترقي حزب أسسه الغربيون عام 1882م لأجل تحطيم الإمبراطورية العثمانية وتقسيمها إلى دويلات"، وأنه "كان حزبا استعماريا". ويدافع عن وجود الحكم العثماني بقوله: "إذا ظلم ستالين فهل من اللازم أن تحطم روسيا إلى دويلات".

ويتبنى كراس صادر عن مجموعة عراقية، تطلق على نفسها جماعة العلماء المجاهدين العراقيين نفس الموقف حيث يقول أنه: "عندما دخلت الجيوش البريطانية العراق، وأصبح وضع الدولة العثمانية صعبا، تحرك علماؤنا المجاهدون للدفاع عن الدولة العثمانية، لأنها ومع كل مواقفها القاسية تمثل رمزا إسلاميا". وفي جانب آخر من الكراس، تؤكد المجموعة على موقفها بقولها: "لقد اشترك علماؤنا الأعلام بالحرب إلى جانب الدولة العثمانية وأفتوا بوجوب الدفاع عن بيضة الإسلام".[1]

وقد ناقش منير محمد نجيب في كتابه الحركة القومية الحديثة في ميزان الإسلام هذا الموضوع وتبنى الموقف ذاته، فأشار إلى

أنه لما كان العرب يحملون لواء القيادة ونشر العقيدة، كان غير العرب من الأمم المفتوحة تحمل لواء القيادة ونشر العلم في الأرض الإسلامية. وعندما تخلى العرب عن مسؤوليتهم وتولوا عن دينهم وانكبوا على ملذاتهم حمل لواء الجهاد عن الإسلام والذود عنه هذه الأمم التي فتحت بلادها. حمل البربر اللواء في الغرب الإسلامي من خلال دولتي المرابطين والموحدين، وحموا الأندلس العربية من السقوط في يد الإفرنج. وقاموا بنشر العقيدة في أفريقيا وتحويلها إلى قارة إسلامية. وحمل السلاجقة اللواء في الشرق الإسلامي، وصدوا أول هجوم صليبي من الروم في معركة ملاذ كرد، على يد البطل يوسف بن ناشفين. وأخذ اللواء عنهم الأيوبيين حيث تحطمت جحافل الروم في حطين على يد البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي. ثم أخذ المماليك لواء الإسلام والجهاد عنه والذود عن حياضه، حيث تحطمت جحافل التتار والمغول في عين جالوت على يد البطل المجاهد المظفر قطر والبطل المجاهد الظاهر بيبرس. ثم أخذ العثمانيون الأتراك لواء الإسلام والجهاد في سبيله والذود عن حياضه حيث تحطمت قوة الروم كلها بسقوط عاصمتهم القسطنطينية على يد البطل المجاهد محمد الفاتح. وبقي خط الراية الإسلامية ماض لا يتوقف تسلمه أمة لأمة، ويستلمه جيل عن جيل حتى وقتنا الحاضر مصداقا لقول الله عز وجل (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا لأمثالكم).[2]

والواقع أن العثمانيين قد أشاروا إلى أن دولتهم هي استمرار للدولة العربية الإسلامية التي سقطت عام 1258م، وأشاعوا أن آخر الخلفاء العباسيين محمد المتوكل تنازل عن الخلافة للسلطان سليم الأول وسلمه الآثار النبوية المؤلفة من بيرق الرسول وبردته، بما يشير إلى انتقال الخلافة إلى آل عثمان.[3]
الموقف التاريخي

تهدف هذه المقالة إلى تقديم قراءة، وتحليل تاريخي سريعين لعهود الحكم العثماني، خاصة تلك التي تتعلق بالهيمنة التركية على الوطن العربي، ومناقشة جدل السلفية السياسية التي وردت في مقدمة هذا الفصل. وسوف نستعين بالنظرية الخلدونية عند مناقشة الأسباب التي أدت لاستمرار الحكم العثماني لحقب طويلة.

والحق أن ما دونته كتب التاريخ يوضح أن الدوافع لقيام الحكم العثماني وتوسع ممتلكاته لم تكن دينية، بل كانت نزوعا إلى السلطة والتحكم، ذلك أن الدين، كما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ليس هوية فقط، وليس طريقة يدعى اتباعها، أو سلما تستخدمه الدولة الطاغية لتبرير تجاوزاتها. بل منهج وتشريع وعقيدة وسلوك قوامه الحق والعدل. ولذلك تتقرر علاقة الحكام بالدين بقدر التزامهم بجوهره وتطبيق مبادئه وتشريعاته، وليس فقط بادعائهم الإلتزام به. وقراءة تاريخ السلطنة العثمانية منذ بداياتها وحتى سقوطها تؤكد نتائج مخالفة تماما لتلك التي تقول بها الحركة السياسية السلفية الإسلامية.

فالسلطنة العثمانية قامت في أساسها على الغدر بالحلفاء السلاجقة، الذين كانوا سببا في نشوء أول إمارة عثمانية في آسيا الصغرى. وقد بدأت تلك الإمارة بالتوسع على حساب ممتلكات الدولة السلجوقية المسلمة. وهذا يعني أن البدايات الأولى للحروب العثمانية لم تكن موجهة إلى الشرك والمشركين، ولم تكن مواصلة للحروب الإسلامية التي بدأت مع بزوغ فجر الإسلام، ولكنها محاولة للتوسع على حساب دولة أخرى تعتنق الإسلام. ولم تكن تلك الحرب إلا واحدة من جملة حروب خاضتها الدولة العثمانية ضد الدول الإسلامية المجاورة. فقد خاض السلاطين من آل عثمان حروبا عديدة ضد أسرة الخان والدولة الصفوية ودولة المماليك، وجميعها دولا إسلامية.. وقد حكمت تلك البداية عقلية الحكام العثمانيين، عبر تاريخهم الطويل. فكان التآمر والغدر والخيانة والتطاحن على السلطة، والإقتتال فيما بين أبناء البيت الواحد، بين الإبن وأبيه والأخ وأخيه صفات ملازمة لمسيرة هذه الإمبراطورية في تاريخها الطويل. وفي هذا المجال سنحتكم إلى التاريخ للتذكير ببعض الحوادث، على سبيل الأمثلة لا الحصر.

في عام 1386م، ثار ساوجي الإبن الأكبر للسلطان العثماني مراد، ونائبه في حكم أوروبا ضد أبيه، بعد أن عقد حلفا مع أحد الأمراء البيزنطيين وأمير قرمان السلجوقي. وقادوا مجتمعين حربا ضد السلطان العثماني، إلا أن الأخير تمكن من إلحاق هزيمة منكرة بجيوش ابنه وحلفائه بقونية في العام نفسه.

وفي بداية 1399م، بدأ السلطان العثماني با يزيد يتجه نحو الشرق، في محاولة لتعزيز موقعه ضد تيمورلنك الذي بدأت قوته تشكل تهديدا وخطرا مرتقبين على الدولة العثمانية. وفي عام 1403م، بدأت أول مواجهة مباشرة بين بايزيد وتيمورلنك، كانت نتيجتها خسارة فادحة للسلطان بايزيد، الذي تم أسره في المعركة ومات في السجن عام 1403م. وهكذا فإن هذه الحرب التي ذهب ضحيتها السلطان نفسه لم تكن بين دولتين غير اسلاميتين، ولم تكن بقصد مواجهة الكفار..!

وكان من نتائج وقوع بايزيد في الأسر أن دب الصراع على السلطة بين ابنيه محمد وعيسى، اللذين خاضا معركة عسكرية ضارية ضد بعضهما البعض انتهت بانتصار محمد في نهاية عام 1404م. إلا أن ذلك لم يستمر طويلا، فما أن استتب الأمر لمحمد حتى واجهه تمرد آخر، قاده في هذه المرة أخوه الثاني سليمان، الذي خاض معركة دموية قاسية انتهت بمقتله وانتصار أخيه محمد في عام 1410م. وما أن انتهت هذه المعركة حتى برز موسى، الأخ الثالث للسطان مطالبا بالسلطنة لنفسه، ومعلنا تمردا عسكريا آخر انتهى بمقتله، حيث حكم عليه بالموت ونفذ به في معسكر أخيه السلطان محمد في عام 1413م.

وعندما توفي السلطان محمد في عام 1421م، في أدرنه خلفه في الحكم السلطان مراد الثاني الذي بدأ ممارسة سلطاته بمواجهة شخص من الأسرة العثمانية ادعى أنه مصطفى، ابن بايزيد الذي سبق له أن قتل في انقره. وما أن تمكن السلطان مراد الثاني من القضاء على هذا المدعي، حتى واجهه تحد آخر من أخيه مصطفى البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما. وقد تمكن السلطان من قمع هذا التمرد أيضا والقضاء عليه.

وفي عهد السلطان مراد الثاني أيضا، تمكن العثمانيون من احتلال مدينة سالونيك عنوة، ودحر القوات المدافعة عنها وتدميرها تدميرا مهولا. كما حاول أن يبسط حكمه شمالا على بلاد البلقان، ولكنه ووجه بهزيمة ساحقة اضطر إثرها إلى طلب الصلح عام 1444م، حيث أبرم معاهدة سلام لم يقدر لها أن تعمر طويلا.

وفي الخامس من شباط/ فبراير عام 1451م، توفي السلطان مراد الثاني، وتسلم ابنه محمد المشهور بالفاتح زمام الحكم. وقد استهل هذا السلطان حكمه باصدار أمر بقتل أخيه أحمد تحسبا من قيام منافسة من قبله على السلطة في المستقبل. ومنذ ذلك الحين انتهت عادة قتل السلطان اخوته إلى أن تكون قاعدة شبه مطردة، كلما ارتقى حاكم جديد عرش السلطنة، وذلك بسبب التجارب الفاجعة التي عانتها الأجيال السابقة.

والجدير بالذكر أن السلطان محمد انشغل طيلة حياته في حروب عديدة وسعت من حجم الإمبراطورية العثمانية، وزادت من ممتلكاتها. واشتهر من بين تلك الحروب احتلال القسطنطينية وبلاد اليونان. كما عرف عنه دمويته ووحشيته، ففى عام 1458م عندما تمكن من هزيمة بلاد الصرب واقتحام بلغراد، أمر باستباحة المدينة، فقام جنوده بالنهب والتقتيل والتنكيل بأهلها.

وبعد وفاة السلطان محمد الفاتح، واجهت الدولة العثمانية انقساما وصراعا حادين يجدر بنا الوقوف عندهما. فلقد أوصى السلطان محمد الفاتح بأن يخلفه في الحكم ابنه الأصغر جم الذي كان مقيما في قونيه كحاكم على قرمانه، وعند وفاة والده حاول الوزير الأكبر اخفاء خبر وفاة السلطان لكي لا يعلم به بايزيد، الإبن الأكبر للسلطان إلا بعد أن يتم تنصيب أخاه الأصغر جم. ورغم شدة الحرص على كتمان الوفاة، تسرب الخبر للجنود الإنكشاريين، مما دفع بهم إلى قصف القلعة في اسكودار التي كان الوزير الأكبر متحصنا بها وقتله. وعلى إثر ذلك، دخل بايزيد الإبن الأكبر للسلطان محمد إلى القلعة، وتمكن من إقناع الجنود بالتعاون معه، بعد أن وعدهم بالعفو عنهم وزيادة أعطياتهم ومخصصاتهم.

وفي تلك الأثناء، تمكن الأخ الأصغر جم من السيطرة على بروسيا، واعترف به سلطانا متوجا عليها. وقد اقترح الأخير تقسيم الإمبراطورية العثمانية بينه وبين أخيه بايزيد إلى جزئين، يسيطر هو على الجزء الآسيوي، ويسيطر أخوه على الجزء الأوروبي. إلا أن هذه الفكرة لم تلق استحسانا من أخيه بايزيد، فكان رد فعله على هذا الإقتراح هو القيام بهجوم كاسح ضد جم، تمكن خلاله من الحاق هزيمة منكرة به عند بني شهر، في 23 حزيران/ يونيو عام 1481م، مما دفعه إلى الهروب لمصر والإحتماء بدولة المماليك. إلا أن بايزيد تمكن في وقت لاحق من دس سم لإخيه جم والتخلص من عبئ مطالبته بالحكم.

وهكذا استقرت الأمور لبايزيد لحقبة طويلة. إلا أنه في الأيام الأخيرة من حياته عانى من أحداث مريرة وقاسية، نتيجة للصراع على السلطة بين أبنائه. ويمكن رد قصة هذا الصراع إلى اختيار السلطان بايزيد لإبنه أحمد، أحب أبنائه لديه، لولاية العهد. بل لقد أظهر بايزيد رغبة حادة في التنازل عن العرش لصالح ولي عهده. وقد أثار ذلك ضغينة وحسد ابنه الأصغر سليم، فجعله يطالب أن تستند إليه الأمور في إحدى الولايات العثمانية بأوروبا بدلا من طرابزون التي كان حاكما عليها آنذاك. وكان سليم يهدف من وراء ذلك إلى حرمان أخيه من ارتقاء عرش السلطنة. وحين رفض والده تنفيذ طلبه، برز على رأس خمسة وعشرين ألف مقاتل أمام أبواب أدرنة عام 1511م، وتحدى والده واستولى على سنجقي سمندريه وودين بعد أن ضمن تأييد الجيش له. ولم يستطع السلطان بايزيد مقاومة زحف ابنه إلا بعد أن تم استيلاء الأخير على أدرنه، حيث استطاع الوالد إعادة تنظيم جيشه لمقاومة تمرد ابنه. وفي 3 آب/ أغسطس عام 1511م، تمكن الوالد من إلحاق هزيمة بابنه عند جورلي، مما دفع سليم إلى الإلتجاء في حمى خان القرم، ومحاولة إعادة ترتيب صفوف مقاومته.

وفي نيسان/ ابريل عام 1512م، ظهر سليم مرة أخرى أمام أبواب مدينة استانبول، حيث استقبل من قبل أفراد حاميته استقبالا حماسيا، وأرغم أباه على التنازل عن العرش. وقرر الوالد مغادرة عاصمته، متجها صوب مسقط رأسه في ديمتوقة ليمضي هناك الأيام الأخيرة من حياته، ولكنه توفي وهو في طريقه إليها، بعد أن دس له السم. ويعتقد الكثير من المؤرخين المهتمين بدراسة مراحل تطور الدولة العثمانية أن ليس هناك مصلحة لأحد في التخلص من بايزيد في تلك المرحلة سوى ابنه سليم، ولذلك فإن السم قد دس للأب بتحريض من إبنه.

وعلى كل، فقد حسم الصراع بين بايزيد وابنه، واستطاع الإبن التخلص من سلطان والده، ولم يبق عليه سوى أن يحسم الصراع مع أخيه أحمد. وهو ما حدث فعلا، فقد تمكن السلطان سليم الغوري، فيما بعد، من اقتحام مركز أخيه أحمد، والقضاء عليه في عام 1513م.[4]

من خلال ما تقدم من أمثلة سجلها تاريخ الدولة العثمانية، يتضح أن الإلتزام بالدين والجهاد في سبيله، كان آخر ما خطر ببال السلاطين من آل عثمان، وأن ما كان يحكم حركتهم وسلوكهم هو جموحهم نحو الإستحواذ بالسلطة، والقضاء على أي معوق يقف في طريق تحقيق هذا الهدف. وقد انسحب هذا السلوك على معظم أولئك السلاطين، بما فيهم فاتح القسطنطينية واليونان وبلاد البلقان.



الهيمنة العثمانية على الوطن العربي

خلافا لما تردده أدبيات الفكر السياسي السلفي من أن الشعب العربي كان مغتبطا بالحكم العثماني، لم يكن أبناء الشعب العربي سعداء باحتلال العثمانيين لأرضهم. ففي مصر، عم الأسى أنحاء البلاد إثر احتلال السلطان العثماني سليم لمدينة القاهرة عام 1517م. وكانت نتيجة ذلك الإحتلال أن أفرغت البلاد من الصناعيين والأساتذة. وهبط عدد سكان مصر من ثمانية ملايين نسمة إلى مليونين ونصف بين القرن الرابع عشر والقرن الثامن عشر. وحل الخراب في كل بقعة، وأعمل الأتراك في البلاد النهب والسلب.[5]

وقد وصف الدكتور حسنين فوزي أستاذ علم المحيطات في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية ذلك الإحتلال، فتحدث عن الجمعة الحزينة عام 1517م، حين غزا السلطان العثماني سليم مصر، ووضع حدا لألف سنة من الإستقلال الذاتي، بقتل طومان باتي قائد المماليك، ودمر بصورة منتظمة ثروة مصر في العهود الوسطى وفنونها وصناعاتها وثقافاتها.. وقد لخص ذلك بقوله

ولا أحسب مصر في تاريخها الطويل عرفت عهدا أظلم من تلك القرون الثلاثة بل الأربعة التي مرت على مصر بعد موقعة مرج دابق بالشام وموقعة سنبل علان بمشارف القاهرة.[6]

وفي فلسطين، ساد النظام الإقطاعي، واحتكرت حفنة من العائلات ملكية مساحات واسعة جدا من الأراضي، واستغلت طبقة الفلاحين. ومن الناحية السياسية، كانت هذه العائلات متحالفة مع الطبقة العثمانية الحاكمة، عبر علاقة من المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة. وبالتالي، فقد سيطرت على المناصب الحكومية والدينية الهامة. وشددت القوانين العثمانية، الصادرة عام 1856م لإصلاح الإدارة من قبضة العائلات الإقطاعية على مصادر رزق الفلاح الفلسطيني، حتى اضطر الكثير من صغار الملاك من الفلاحين إلى تسجيل أراضيهم وقراهم باسم الإقطاعيين والتجار، هربا من الضرائب والجندية وغير ذلك من الموجبات التي ربطت بملكية الفلاح لأرضه. كما أن زيادة الضرائب أدت إلى استيلاء الدولة على أراضي الفلاحين وقراهم في المزاد العام عام 1869م، لاستيفاء الديون والضرائب المترتبة عليهم.[7]

وحول نتائج الإحتلال العثماني لتونس، يوضح الدكتور عفيف البوني أن الصلة بين الشرق وأفريقيا التي كانت قائمة سابقا قد تغيرت. ويلخص الكاتب حال القطر التونسي، تحت الهيمنة العثمانية بقوله

إنها هذه المرة تبعية للأتراك ابتدأت عام 1574م، تحت ستار الإسلام وتسلط الخلافة العثمانية، فهي تدفع الضرائب لخزينة السلطان، وهي محكومة من قبل العساكر الإنكشارية (أتراك، شركس، أو مماليك مغامرون) والذين يقدر عددهم بثلاثة أو أربعة آلاف رجل، تتكون منهم الطبقة الحاكمة ذات النفوذ والجاه، والتي وجهت اهتماماتها للبحر من خلال حروب الجهاد الحربي، وهي لا تتوجه للسكان الأصليين إلا لإخضاعهم للحملات العسكرية عند جمع الضرائب الباهضة، والتي تفننوا في نهبها.. وأما الإسلام الذي كان المبرر الآيديولوجي للحكم التركي فقد تحول بتشجيع من السلطة إلى طقوس دروشة وأوهام سحرية. وباختصار كان الحكم التركي لتونس في ظل الإمبراطورية العثمانية، ومن خلال صيغ الممارسة العملية حكما سيئا ولا شعبيا. وفي نفس الوقت، كان حكم أقلية قومية لأكثرية قومية أخرى. ولقد سيطرت هذه الأقلية على الحركة التجارية، واحتكرت النقل البحري لها وحدها، مما أزم النشاط الإقتصادي للسكان الأصليين. فتعرقلت بذلك حركة التطور المستقل، وتعطلت الإختصاصات المختلفة التي كان يمكن في ظروف التطور المستقبلي أن تكون لها نتائج أخرى على مستقبل البلاد. ولسنا نبالغ حين نقول إن الإستبداد هو الميدان الذي تفنن فيه الأتراك أكثر من غيره. ولقد صاحب ذلك شيوع وبث أفكار مظلمة تبرر القنوع والجمود والتخلف باعتبار ذلك قضاء وقدرا من عند الله لامتحان صمود الناس، واكتشاف مدى قدرتهم على التحمل والصبر.[8]

ومن ذلك يصل الدكتور البوني إلى أن الإستبداد الذي سلطه الأتراك على الشعب التونسى، ونهبهم لثرواته، والإفقار الروحي الذي مارسوه بحق الثقافة العربية الأصيلة، وجهل الحكام، واستماتتهم في تتريك نمط الحياة، وفساد إرادتهم.. كل ذلك أنهك اقتصاد البلاد، وأصاب الشعب باستلاب سياسي واقتصادي ترك آثاره في مختلف نواحي الحياة. وقد أدى ذلك إلى خلق فراغ سياسي وضعف اقتصادي خطير، أنهك مقاومة الشعب، مما مكن الفرنسيين من احتلال البلاد في مراحل لاحقة.[9]

كان ذلك باختصار حال الأمة العربية أبان هيمنة الإستعمار التركي: ضرائب باهضة وأتاوات تدفعها الجموع الفقيرة من أبناء الشعب، واستبداد سياسي واقتصادي قل أن يوجد له مثيل في التاريخ. وما عدا ذلك من أمور عامة كالصحة والتعليم، فإن السلطنة العثمانية اعتبرتها خارج مسؤولياتها.[10] يضاف إلى ذلك اضطهاد قومي وحرمان للشعوب العربية من دراسة لغتها، التي هي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف اللذين يستمد السلطان العثماني منهما مشروعيته.

بل لقد ساهم العثمانيون في تشويه الصورة الناصعة لعقيدة التوحيد بقسرهم الناس على الدخول في دين الإسلام، وأخذهم الأطفال من أبناء غير المسلمين وتجنيدهم في الجيش الإنكشاري، خلافا لما جاء في القرآن الكريم: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم).[11]ولو كان هذا التصرف من صميم الدين وروح الإسلام، لما تخلف عن تبنيه واتباعه الخلفاء الراشدون الأوائل، وهم الذين وقع في أيديهم آلاف الأسرى وشعوب كثيرة من غير المسلمين.

وفي المراحل الأخيرة من هيمنة الإمبراطورية العثمانية على الوطن العربي، بدأ تنفيذ المخطط الصهيوني لاحتلال فلسطين، عندما بدأ الصهاينة الهجرة الأولى عام 1882م إلى فلسطين بموافقة السلطان العثماني. وقد استمرت هذه الهجرة في التزايد، حتى أصبحت في مراحل لاحقة تشكل تهديدا حقيقيا للوجود العربي الفلسطيني.[12]

وهكذا نجد أن قيادة الأتراك للدولة الإسلامية، واحتلالها للأراضي العربية لم تحقق سوى الخراب والدمار للشعب العربي. وأن ما قاموا به أثناء هيمنتهم متناقض كليا مع تعاليم الدين الإسلامي وقوانين العدل والمساواة. ولذلك لا يمكن وصف حروب السلطنة بأنها استمرار للفتوحات الإسلامية التي بدأها الخلفاء الراشدين، وإنما كانت ظلما وعدوانا لا تمت إلى الإسلام وعقيدته وسماحته في شيء.

أسباب امتداد الحقبة العثمانية

أما أن تكون الدولة العثمانية عمرت طويلا فهذا صحيح. فقد سجل لنا التاريخ أن البدايات الأولى للحكم العثماني كانت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، على يد أرطغرل. وأن سقوط هذه الإمبراطورية كان أحد النتائج المباشرة للحرب العالمية الأولى. وبذلك يكون الحكم العثماني عمر قرابة سبعمائة عام. وقد عزا المؤرخون أسباب ذلك إلى أن الدولة العثمانية كانت دولة عسكرية، لم تشهد فترة استرخاء وركود وإنما كانت في مواجهة دائمة مع القوى المناوئة لها.

فإلى الشمال من الإمبراطورية، كانت روسيا القيصرية تشكل خطرا دائما على سلامة أراضيها، وإلى الغرب، كانت الدولة البيزنطية والدول الأوروبية الأخرى في مواجهات مستمرة معها. فقد دخلت هذه الدول مع العثمانيين في حروب صليبية عديدة، في عام 1389م أثناء فترة حكم السلطان مراد، وفي الأعوام 1390م، 1393م أثناء حكم السلطان بايزيد، وفي عام 1443م أثناء حكم السلطان مراد الثاني، وفي الأعوام 1453م، 1456م، 1479م، 1486م أثناء حكم السلطان محمد المعروف بالفاتح، وفي عام 1571م بقيادة السلطان سليم الثاني، وكثير من الحروب الأخرى. كما كان هناك تحد آخر من الشرق يتمثل في وجود دولة الخان والدولة الصفوية في أيران، حيث خاض السلطان بايزيد في عام 1402م حربا خاسرة ضد تيمورلنك تم أسره فيها، كما جرى توضيحه في موضع سابق. وخاض السلطان محمد الفاتح في عام 1473م، معركة دامية ضد عزون حسن سلطان الخان، انتهت دون تمكن أي من الفريقين من تحقيق نصر حاسم. وفي عهد السلطان سليم الغوري نشبت عدة حروب على أرض إيران والعراق، في مواجهة الدولة الصفوية.

ومع وصول السلطان العثماني، سليم الغوري إلى السلطة بدأ العثمانيون بالإتجاه إلى الجنوب، صوب الوطن العربي، متقدمين نحو بلاد الشام، حيث وقعت أول معركة فاصلة في مرج دابق، شمالي مدينة حلب عام 1516م، تمكن العثمانيون فيها من الإنتصار على جيوش المماليك، حيث انسحب السلطان المملوكي بجيوشه إلى القاهرة، وتمت ملاحقته من قبل جيوش العثمانيين، وتمكنوا من احتلالها عام 1517م. وفي عام 1534م، اتجه السلطان سليمان القانوني بجيشه إلى العراق، وتم احتلاله واصبح جزءا من ممتلكات الإمبراطورية العثمانية.[13]

ويمكن القول أن الإمبراطورية العثمانية قد بلغت أوج قوتها العسكرية وثرائها الإقتصادي وتوسعها الجغرافي في القرن السادس عشر. ولكنها بدأت عدها التنازلي بعد أن واجهت مشاكل خطيرة على مختلف الصعد بعد عام 1683م، إثر فشل حصارها الثاني على مدينة فينا النمساوية.[14]

وخلاصة القول، أن حالة التحفز والمجابهة اللتين صاحبتا الدولة العثمانية منذ نشوئها، كانا عاملين أساسيين في استمرار حيويتها وديمومتها. ومثل هذا التحليل يتفق تماما مع تصورات العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون في كيفية نشوء الدول وتطورها، ومن ثم شيخوختها وتداعي كياناتها.

فقد قسم ابن خلدون مراحل تطور الدولة إلى ثلاثة حقب، النمو والعمران والشيخوخة. وترتبط الحقبة الأولى بالعصبية التي يصفها بقوله

إن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل منهم دون صاحبه، ثم إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع في التنافس غالبا، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه، فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة، وشئ منها لا يقع إلا بالعصبية.[15]

ويحذر ابن خلدون من حالة الإسترخاء الناتجة عن الترف والنعيم، مشيرا إلى ذلك بقوله[16]

إن الجيل الوحشي ]والمقصود به الجيل الأول الذي لم يسبق له ممارسة السلطة في السابق[ أشد شجاعة من الجيل الآخر، فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعمار، فكلما نزلوا الأرياف وتقبلوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم تنقص من شجاعتهم بقدر ما ينقص من توحشهم وبداوتهم.[17]

ويرى ابن خلدون أن الأمم تبدأ تأسيس كياناتها بحالة مواجهة مستمرة وساخنة، وأن ما يمكنها من تأسيس كياناتها الجديدة هو تداعي كيانات أخرى قائمة سابقا، وضعفها وعدم قدرتها على الإستمرار نتيجة لعوامل الإسترخاء التي تأخذ في البروز مع بداية الإستقرار، وأن قيام الحضارة، التي هي غاية العمران، إيذان بأفول الدولة المتحضرة. وتلك هي المرحلة الثانية، في تطور الدول، التي يصفها ابن خلدون بقوله

إن الحضارة في العمران غاية لا مزيد وراءها وذلك لأن الشرف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة، كما علمت، هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه.. وإذا بلغ ألتأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لايستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها.[18]

وهكذا توصل عوامل الإنحراف إلى الحقبة الثالثة، التي هي الشيخوخة وتبدأ بالتفسخ بفعل الترف وكثرة الإنفاق. ويوضح ابن خلدون ذلك بقوله

إن طبيعة الملك تقتضي الترف.. فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم وأعطياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم، فالفقير منهم يهلك، والمترف يستغرق عطاءه بترفه، ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف وعوائده، وتمسهم الحاجة وتطالهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب، فلا يجدون وليجة عنها، فيوقعون بها العقوبات، وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم، أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم، فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم، ويضعف صاحب الدولة بضعفهم. وإذا كثر الترف في الدولة وصار عطاؤهم مقصرا على حاجاتهم ونفقاتهم، احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم ويزيح عللهم. والجباية مقدارها معلوم، ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدودا، فإذا وزعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم، نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات. ثم يعظم الترف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك، فينقص عدد الحامية، وثالثا ورابعا إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد، فتضعف الحماية لذلك، وتسقط قوة الدولة، ويتجاسر عليها من يجاورها من الدول أو من تحت يديها من القبائل والعصائب، ويأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته.[19]

وقد كان ذلك هو حال الدولة العثمانية، فقد تراكمت تناقضاتها وتعقيداتها منذ القرن السابع عشر، وتواصلت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكانت تلك أخطر فترة في التكوين الرأسمالي المركزي الأوروبي في العالم، مما ضاعف من مشاكل السلطنة، وسرع من تبعيتها للإقتصاد الأوروبي، وقاد إلى ضعف مركزية الدولة وتفكك أوضاعها الإجتماعية.[20]

العد التنازلي للسلطنة

ابتداء من بداية القرن السابع عشر، بدأ العد التنازلي للسلطنة، حيث أخذ الخلاف يدب بعنف بين أبناء السلاطين، وبدأ تدخل الجواري في شؤون الحكم يعطي آثارا سيئة، أدت بنتائجها إلى إلحاق هزائم متتالية بالعثمانيين، وإلى فقدانهم لعديد من البلدان التي كانت تحت سيطرتهم.

وفي مراحل لاحقة، اتـخذ تدخل الوزراء المباشر في تعيين الحكام أشكالا خطيرة أدت إلى خلق حالة من الفوضى والتدهور، انعكست نتائجهما في تحرر هنجاريا عام 1686م، وبلغراد عام 1688م من الهيمنة العثمانية، واستمرت أمور العثمانيين بالسير من سيء إلى أسوأ. وقد أدى ذلك الوضع إلى بروز أطماع خارجية في ممتلكات السلطنة العثمانية، فبدأ تدخل الدول الأوروبية في شؤونها الداخلية. وبرز هذا التدخل بأوضح صوره أثناء محاولة محمد على باشا الإستقلال بمصر وسوريا عن سيطرة الحكم التركي. كما برز أيضا في لبنان بحجة حماية الطوائف المسيحية، وأثناء محاولات دول البلقان للتحرر من هيمنة السلطنة.

ونتيجة مباشرة للضعف الذي انتاب الدولة العثمانية، أدت الضغوط الخارجية، إلى حصول بعض الدول الأوروبية على امتيازات خاصة في السلطنة. فقد باعت الدولة العثمانية الإمتيازات لفرنسا عام 1535م، ثم لإنجلترا عام 1579م، ثم لهولندا عام 1598م، ثم لروسيا عام 1700م، ثم للسويد عام 1797م، ولأسبانيا عام 1782م، ثم للولايات المتحدة الأمريكية عام 1830م، ثم لبلجيكا عام 1838م، ثم للبرتغال عام 1848م، ثم لليونان عام 1854م. وقد ضمنت تلك الإمتيازات لتلك الدول سلطة مباشرة على رعاياها المقيمين في السلطنة، مستقلة عن سلطة الدولة العثمانية.

وقد وصف الدكـتور عصمت سـيف الدولة نتائج تلك الإمتيازات بقوله: "لقد بدأت تلك الإمتيازات بذورا، ثم بنت نفوذا، ثم أثمرت استعمارا". فقد كانت الجيوش الروسية تكتسح العثمانيين، متجهة إلى العاصمة الأستانة عام 1768م، مما أرغم الدولة على التخلي عن قبرص ورودس وكريت لتعزز قوتها على الحدود الشمالية. وفي عام 1829م، هزمت الجيوش العثمانية في أدرنة، ففقدت اليونان وأجزاء من القوقاز، كما فقدت سلطانها على بلاد البلقان.[21]وهكذا توالى سقوط ممتلكات الدولة العثمانية الواحدة تلو الأخرى، ولم تستطع السلطنة العثمانية فعل شيء للوطن العربي وهي ترى أقطاره تسلب الواحد بعد الآخر.

وقد أدت جملة الحروب ومحاولات التمرد وانفصال الأقاليم إلى تقليص مجال الإستغلال والنهب الرسمي المنظم من قبل الوجاهات والولاة، لكن نفقات الدولة تضاعفت على التسلح والجيوش، في محاولة للحفاظ على البقية الباقية من هيبتها ووجودها، مما أدى إلى حدوث انكماش اقتصادي شديد وخلق أزمة اقتصادية خانقة في الإمبراطورية.[22]

ومن جهة أخرى، أدى الوعي العثماني المتأخر لأهمية تحديث اقتصاديات الدولة والمجتمع إلى نتائج عكسية. فقد أظهر العثمانيون اهتماما بالإختراعات الأوروبية، بعد انتصار الثورة الفرنسية بشكل خاص، وبرز لديهم ميل للإستفادة من المنجزات العلمية، خاصة في مجال استخدام الأسلحة الحديثة. فكان ذلك سببا أساسيا آخر في زيادة الإنفاق، في وقت لم تساعدهم فيه وارداتهم المالية على تحمل تلك الأعباء. وقد حدث ذلك في ظل انعدام أي خطط اقتصادية أو تنموية، وغياب تام للبرامج الإصلاحية، ودون انتقال إلى تحديث المجتمع وتجديد العلاقات الإنتاجية والعمل على اجراء تحولات جذرية اجتماعية، فكانت النتيجة سقوط مريع في التبعية للإقتصاديات الأوروبية الفتية.[23]

وقد عبرت تلك التبعية عن نفسها في جملة من الإجراءات الإقتصادية التي اتخذتها السلطنة لصالح الدول الأوروبية. فعلى سبيل المثال، استغلت بريطانيا الظروف الصعبة التي مرت بها الدولة العثمانية أثناء صراعها مع محمد على وفرضت عليها فتح أسواق البلاد العثمانية، بما فيها الوطن العربي. وبموجب اتفاقية عام 1838م، تأكدت الإمتيازات الممنوحة للأجانب، وألغيت الرسوم والضرائب السابقة وكل أنواع الإحتكارات في السلطنة، ووضعت تعريفة جمركية مخفضة تتراوح من 3-5 بالمائة على الوارد، و12 بالمائة على الصادر بالنسبة للأجانب. وفي حين كان التجار المحليون في عموم البلاد يدفعون ضرائب داخلية، كان التجار الأجانب معفيين منها، ولا يدفعون إلا الرسوم الجمركية المخفضة.[24]

وواقع الحال، أنه حتى في ظل قوة السلطنة العثمانية واتساع رقعتها، فإن علاقاتها الإقتصادية مع الدول الأوروبية لم تكن علاقات متكافئة. فرغم أن الدولة حققت ثراءها من خلال هيمنتها على أقاليم ومدن ساحلية وبيئات تجارية عرفت بغناها وإمكاناتها، فإن الإقتصاد العثماني بقي ريعيا ولم يهتم سوى بالتجارة وتجميع الثروة. وفي ظل ذلك الوضع، كانت الدولة تجني الضرائب والمنتجون يربحون الفائض. وقد أفاد ذلك الوضع الرأسمالية الأوروبية كثيرا، واستفادت من الإنتاج الخام بالسلطنة، وأنشأت مع العثمانيين علاقة مركز بمحيط. حيث أصبح التجار العثمانيون مجرد وسطاء، لا يهتمون في الغالب إلا بمسائل الترانزيت والضرائب وبعض الإحــتكارات التي سيطر عليها اختصاصيون تجمعوا في طوائف وبيئات خاصة.[25]ويوضح الدكتور سيار الجميل خلاصة ذلك الواقع بقوله

وعليه، فقد غدت التشكيلات الإجتماعية العثمانية، تشكيلات خدمية استهلاكية غير منتجة، إذ لم تعتمد في حياتها الإقتصادية على مناطقها الزراعية الثرية، ولا على استخدام مواردها الطبيعية الوفيرة.. فساءت أحوالها الإجتماعية إثر سوء ظروفها الإقتصادية، وبدت عرضة لهجمات الأوبئة والأمراض والطواعين الفتاكة.. ناهيك عن موجات الغلاء واجتياح المجاعات والنكبات.[26]

وكانت الدولة قد أصابها العفن من الداخل وتفككت أجزاءاها بانفصال كثير من ممتلكاتها عنها. وغدا الجمود والتكلس والعجز عن الإنفتاح ديدن الدولة ونهجها العام. وعلى الصعيد الديني، أقفل نهائيا باب الإجتهاد ومنعت قراءة كتب الحديث قراءة مباشرة، خوفا من الفهم المباشر للنص، وفرضت قراءة الأحكام الفقهية الناجزة وحدها.[27]

وفي المراحل الأخيرة من عمر السلطنة، لعبت المؤسسة الدينية، بالتعاون مع المؤسسة العسكرية (الإنكشارية) أدوارا رئيسية مهمة، سواء في دعم السلطان أو في الإنقلاب عليه والإتيان بسلطان آخر.[28] وكانت كل المؤشرات تدلل على أن الدولة في طريقها إلى السقوط.

ومنذ بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بدأ جليا التخطيط من قبل الدول الأوروبية لتقاسم تركة السلطنة العثمانية، أي قبل بروز نتائج الحرب العالمية الأولى بوقت طويل.[29]

إضافة إلى هذا التحليل، فإن بعض المؤرخين يعزون طول أمد السيطرة العثمانية على الوطن العربي إلى أن سلطتها كانت غير مباشرة حتى منتصف القرن التاسع، فقد اعتمدت على نفس القوى المحلية التي كانت تحكم تلك الأقطار قبل الإحتلال العثماني لها.

فقد بقي الأشراف، على سبيل المثال، حكاما للحجاز، كما كانت الأسرة المعنية والشهابية تتقاسمان حكم لبنان. وفي مصر، بقي المماليك رغم المعارك الحربية التي خاضوها في مواجهة السلطنة العثمانية في الأيام الأولى للإحتلال العثماني حكاما حقيقيين لمصر، حتى أن نجاح الوالي العثماني في هذا القطر اعتمد إلى حد كبير على مدى نجاحه في كسب هؤلاء المماليك إلى جانبه. وقد استمر الحال كذلك إلى أن استطاع محمد على باشا دعوة قادة المماليك وجمعهم في قلعته المعروفة بمصر، والقضاء عليهم جميعا في مجزرة رهيبة عرفت بمجزرة القلعة.

وهذا يعني أن الشعب العربي، رغم معاناته المباشرة من هيمنة الحكم العثماني، جراء الأتاوات والضرائب الباهضة، وعدم الإهتمام بشؤونه الخاصة من صحة وسكن وتعليم إلا أنه لم يكن، حتى وقت متأخر، على تماس مباشر بالقادة الأتراك. فقد كان القادة المحليون وملاك الأرض والجباة يلعبون دور الوسيط بين الشعب وبين الحكم العثماني.

ومع ذلك لم تكن الفترة التي هيمن فيها الحكم التركي على الوطن العربي فترة استقرار ورخاء. ولم تكن فترة اندفع فيها العرب والمسلمون للدفاع عن هذه الدولة والتباري في خدمتها ونصرتها. فلقد سجل لنا التاريخ قيام عديد من محاولات الإنفصال عن الدولة العثمانية وتحقيق الإستقلال، كمحاولة فخر الدين المعني في لبنان، والشيخ ظاهر العمر في فلسطين، والحركة الدينية التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، والتي أخذت في التوسع حتى شملت معظم أنحاء الجزيرة العربية، وحركة محمد على باشا في مصر، وتقدمه إلى سوريا وتوحيدها في دولة واحدة مع مصر. يضاف إلى ذلك، أن الأوضاع لم تكن مستقرة في العراق الذي كان الصراع بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية يتقاذفه، فيضعه تحت هذه الهيمنة حينا، وتحت تلك حينا آخر.

يضاف إلى ذلك، أن من الأهمية بمكان، ونحن في معرض تحليل العوامل التي أدت إلى طول فترة الحكم العثماني، وامتداد هيمنته على الوطن العربي أن نأخذ بعين الإعتبار العوامل المحيطة والخارجية التي ساعدت على تحقيق هذه الإستمرارية. ذلك أن القوى الخارجية المناوئة للأتراك كانت من جهة، تعاني من مشاكلها الداخلية، وكان البعض الآخر منها يعيش مرحلة تداع وانهيار. ومن جهة أخرى، فإنها لم تكن موحدة في عقائدها وأهدافها وطبيعة الدوافع التي تحرك صراعها ضد السلطنة.

فالدولة السلجوقية كانت في مراحل شيخوختها، كما كانت دولة الخان أيضا في مرحلة لاحقة، تعيش أيامها الأخيرة. أما الدولة الصفوية فقد واجهت بمفردها في الشرق تحدي العثمانيين، بعد أن تمكنت جيوش السلطنة من القضاء على حليفتها، دولة المماليك التي كانت هي الأخرى تبعد آلاف الأميال عن موقع الصراع الفارسي العثماني. ومن جهة أخرى، كان الأوروبيون رغم حماسهم واشعالهم لحروب صليبية عديدة ضد السلطنة، غير متفقين وموحدين في أهدافهم من تلك الحروب. وفي الغالب كانت معظم الحروب الصليبية التي شنتها أوروبا ضد العثمانيين مجرد استجابات انفعالية لنداءات متكررة من البابا، تحركها دوافع دينية متعصبة، ما تلبث أن تنتكس وتتراجع عند حدوث أي مواجهة عسكرية جدية مع الأتراك.

كما كانت الصراعات السياسية والتنافس العسكري والتجاري بين الدول الأوروبية الفتية عوامل أساسية أجلت من حسم الصراع ضد الأتراك. فالتنافس بين بريطانيا وفرنسا من جهة، والذي سجل لنا التاريخ أنه كان العامل الرئيسي لاحتلال مصر من قبل نابليون، والصراع بين الدولتين وروسيا القيصرية من جهة أخرى، أدت إلى استمرار الهيمنة التركية على الشعوب الواقعة تحت سيطرتها. بل لقد كان الأوروبيون، في مراحل عديدة، عاملا أساسيا في تماسك وحدة الدولة العثمانية. وربما شكل موقفهم تجاه محاولة الإستقلال وضم بلاد الشام التي قادها محمد على باشا، وتدخلهم العسكري السافر للحيلولة دون قيام دولة مصرية عصرية مستقلة وقوية خير دليل على ذلك. وقد بقي موقف الدول الأوروبية الفتية على هذا الحال حتى قبيل الحرب العالمية الأولى، حيث ساهمت ظروف سياسية ودولية عديدة في أن تتفق كل من بريطانيا وفرنسا على إنهاء الهيمنة العثمانية، وإسقاط امبراطوريتها وإعادة رسم الخارطة السياسية لعموم المنطقة.

وعلى كل، فإن طول أمد هيمنة سلطة أجنبية ما على شعب آخر لا يمكن أن يعد قياسا لتجاوب شعب أو عدمه مع السلطة المحتلة. والتاريخ الإنساني ملئ بأسماء كثير من الإمبراطوريات التي احكمت قبضتها على شعوب أخرى قرونا طويلة بالضد من رغبات تلك الشعوب، وبالضد من حقها في تقرير المصير. ولذلك فإنه من الصعب، في هذا المجال، الخروج بقانون عام نستطيع تطبيقه على جميع الحالات، دون أن نضع في الإعتبار اختلاف الظروف والبيئة والدوافع والأسباب الأخرى التي تجعل من وجود هيمنة أجنبية أمرا ممكنا في بلد ما، ومستحيلا في بلد آخر.

ثم إن المقارنة بين وجود الإستعمارين العثماني والغربي في الوطن العربي غير جائزة، ذلك أنها تغفل اختلاف الظروف الموضوعية والتاريخية التي هيمن فيها كلا منهما. كما تغفل مرحلة التطور التي عمقت من وعي الشعوب المظلومة قاطبة، ودفعت بها نحو النضال من أجل التحرر والإنعتاق. وتتجاهل مثل هذه المقارنة عملية التواصل النضالي التاريخي الذي بدأته حركة القومية العربية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، والتي اعتبرت النضال ضد الإستعمار الغربي استمرارا لحالة نضالية سابقة، بدأ بها الشعب العربي ضد الأتراك، من أجل تحقيق استقلاله ووحدته. وحين واجه الغدر البريطاني الفرنسي واصل النضال بنفس القوة والإندفاع، وربما بتصميم أعلى على دحر الغزاة والمستعمرين الجدد.

لقد جاء الإستعمار العثماني في حالة تداع للنهضة العربية، وتمزق أقطارها، إثر سقوط الدولة العباسية وإغراق مكتبة بغداد، وسيادة عهود من الظلمة والتخلف... فكان وجود هذا الإستعمار استمرارا لحالة التداعي هذه. وقد استمرت حالة التداعي والركود والضعف إبان سيطرة الأتراك حتى النصف الثاني للقرن التاسع عشر، حيث بدأت ملامح النهضة العربية في التشكل، وتزامنت ببروز المقاومة العربية للوجود العثماني التي أخذت في التصاعد. وحين انتهت الحرب العالمية الأولى، ووجه العرب باتفاقيات سايكس بيكو، كانت حركة القومية العربية في ذروة نشاطها وقوتها، بعد أن تمكنت من دحر الإستعمار التركي، مستفيدة من طبيعة المرحلة الدولية السائدة آنذاك. ولذلك كان طبيعيا، حين حصل الغدر الفرنسي البريطاني، أن لا يلق الشعب العربي السلاح، وان تستمر مقاومته لهذا الإستعمار الجديد، حتى تمكن من طرده وإنجاز الإستقلال، مستثمرا أيضا ظروفا دولية جديدة أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية.

يضاف إلى ذلك، أن أحد السمات البارزة في القرن العشرين، هي أنه قرن انتصار الشعوب المقهورة، ليس في الوطن العربي فحسب، وإنما في العالم بأسره. ولذلك يأتي تصاعد النضال الوطني والقومي العربي ضد الإستعمار الغربي في سياق تاريخي وموضوعي صحيح.. ولذلك أيضا، لم يكن مستغربا أن يتمكن الشعب العربي من تسجيل انتصارات حاسمة ضد الإستعمار الغربي في فترة قصيرة.

أما القول بأن شريف الحجاز سلم مفاتيح الكعبة المشرفة للسلطان سليم الغوري طائعا مختارا، ودون أية مقاومة عسكرية، بل رغبة في أن يكون جزءا من الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، فيكفي التذكير أن أول رصاصة أطلقت إيذانا ببدأ الثورة العربية ضد الإستعمار العثماني كانت من الحجاز، ومن مكة المكرمة، العاصمة المقدسة للمسلمين جميعا، ومركز قبلتهم. وأن من أطلقها هو حسين بن على، شريف مكة وأحد أحفاد الشريف بركات الذي سلم مفاتيح الكعبة من قبل. وليس بعد هذا ما هو أكثر دلالة على مدى التذمر والسخط اللذين عانى منهما الشعب العربي في جميع أقطاره جراء الهيمنة التركية، والنهج العنصري الذي مارسته.

الدعوة للمساواة والإصلاح

رغم معاناة الوطن العربي من جراء هيمنة الأتراك وعنصريتهم، فإن الدعوات العامة للإستقلال عن السلطنة جاءت متأخرة جدا. وسبقتها نصائح وتحذيرات وإنذارات، ودعوات للإصلاح وتحقيق المساواة، من قبل عدد كبير من المصلحين السياسيين والزعامات الدينية والإجتماعية العربية.

وكان العلامة عبد الرحمن الكواكبي في مقدمة من دعوا إلى الإصلاح ومقاومة الفساد. فقد قرن العدل والمساواة والشورى بالتوحيد، ورأى أن النقيض يكمن في الشرك والإستبداد. وانتقد السلطنة نقدا مرا، كونها لم تنفع الإسلام لأنها تركت الأمة دون خليفة وفرطت في أجزاء من ديار الإسلام. وقد أكد على أن الإدارة العثمانية هي أحد أسباب الخلل، وشدد على ضرورة اللامركزية الإدارية في الدولة، ودعى إلى مساواة العرب بالأتراك، مشيرا إلى أنه: "من أهم الضروريات أن يحصل كل قوم على استقلال نوعي يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم".[30]

أما الشيخ رشيد رضا، فقد أسس جمعية الشورى العثمانية التي دعت إلى محاربة استبداد السلطان، استنادا إلى الشورى الإسلامية، وأوصت بتنبه المسلمين إلى منافع الأوروبيين ومضارهم، مذكرة بأهمية المفاهيم الإنسانية الأوروبية في المساواة والديمقراطية. وقد طالب الشيخ رضا السلطنة العثمانية بتطبيق الدستور، وعمل جنبا إلى جنب مع الأتراك الليبراليين مطالبا بالمساواة والتعايش بين القوميات المختلفة، ومشاركة الأمة في السلطة ورقابتها على الحكومة. ولم ييأس من مطالباته تلك إلا بعد وصول جمعية الإتحاد والترقي إلى الحكم وفشلها في تطبيق تلك المطالب، حيث لم يجد مفرا من الإلتحاق بصفوف الثورة العربية.[31]

وسار عبد الحميد الزهراوي في خط متماثل، ولكنه كان أكثر التزاما في موقفه القومي. فقد هاجم الإستبداد وانتقد فكرة الجامعة الإسلامية سياسيا، كونها تفتقد الأساس التاريخي، ونادى بفكرة الوطن بديلا عنها. ورأى في العثمانية مجرد رابطة، تشكل نوعا من الإتحاد بين عناصر مختلفة. وطالب بالمساواة بين المسلمين وغيرهم من المواطنين موضحا ذلك بقوله

نحن مسلمون ولكننا لا نريد اتحادا يكون خارجه أبناء وطننا غير المسلمين، ونحن عثمانيون ولكننا لا نريد اتحادا يكون خارجه كل أبناء من غير الترك.. وأن الإتحاد النافع هو الذي يبقى فيه العربي مثلا عربيا والرومي روميا. ولا يسئ أحد بأحد الظن حين يريد خدمة لسانه ويسعى في ترقية أفكار قومه.[32]

وبالمثل ركز رفيق العظم على الحرية وتحقيق المساواة، مؤكدا على إيمانه بالأمة العربية ووحدتها. لكنه مع اعتزازه بدور العرب الرئيسي في التاريخ، فإنه وجد أن الخطر الأوروبي يهدد العرب، وأنهم لا يستطيعون وحدهم مواجهته. ولذلك أصر على أهمية الرابطة العثمانية لحماية الجميع. لكنه أدان اتخاذ الإتحاديين موقفا سلبيا من العرب، واضطهادهم لهم قبل غيرهم من الشعوب، مشيرا إلى أن ذلك السلوك قد نفخ روح التمرد لدى العرب، وأشعل جذوة القومية العربية.

وقد ناقش أخطاء الإتحاديين في تعاملهم مع العرب، فأشار إلى قيام القوميات المنضوية تحت السلطة العثمانية بإنشاء نواد وجمعيات بعد بزوغ نور الحرية. وانسجاما مع مناخ الإنفتاح الجديد، أسس العرب جمعية الإخاء العربي العثماني وفتحوا منتدى لها، ولكن الإتحاديين شككوا في النوايا العربية فأقدموا على حل تلك الجمعية وإقفال منتداها، وتلك كانت أول بادرة سوء ظن من قبلهم بالعرب.[33]

وكان شكيب أرسلان قد أصر على البقاء تحت الخيمة العثمانية من أجل مواجهة الغرب، ورأى أن ذلك هو السبيل الوحيد لحماية الإسلام والبلاد العربية من العدوان الغربي، فليس أمام العرب إلا القبول بالسلطان العثماني لمواجهة شر أكبر هو الخطر الغربي. ومع أنه آمن بالرابطة القومية التي تجمع العرب بغض النظر عن الدين، وطالب بالمساواة بين الناس وأن لا يمتاز المسلمون عن غيرهم بشئ من الحقوق، إلا أن تلك الرابطة يجب أن تكون ضمن رابطة أوسع هي العثمانية أو الإسلامية. وقد دعى أرسلان إلى الإصلاح الذي هو حسب مفهومه: "المساواة في الحقوق بين الأجناس وإعطاء الولايات قسطها من الإصلاحات على نسبة واحدة".[34]

وواقع الحال، أن المناداة بالمساواة بين العرب والأتراك كان رائجا بين العرب المسلمين. وقد كانوا مدفوعين في ذلك بخوف من الخطر الغربي. وكان كثير منهم ينطلق في ذلك من الإلتزام بدعوة الإسلام للإصلاح والحفاظ على الوحدة بين المسلمين. لكن الهزائم المتتالية للعثمانيين وعجزهم عن حماية ممتلكات السلطنة، أدى إلى فقدان هيبتها وعدم الثقة في قدرتها على حماية ديار الإسلام. وقد غرس ذلك الشعور بذور محاولات الإستقلال العربية التي ساهمت في سقوط الدولة العثمانية كأحد نتائج الحرب العالمية الأولى.

وعلى كل، فإن الدعوات الصادقة التي أطلقها قادة النهضة العربية والزعامات الفكرية للإصلاح والمساواة، لم تجد آذانا صاغية من قبل الأتراك، سواء في حقبة السلاطين من آل عثمان، أو بعد تسلم جمعية الإتحاد والترقي حكم تركيا. ولذلك كان من الطبيعي أن تبحث تلك الرموز عن وسائل أخرى لتحقيق أهدافها.

الإستعمار الغربي التقليدي والوطن العربي

ليس صحيحا القول أن بدايات الوجود الإستعماري الغربي في المنطقة العربية ارتبطت بنتائج الحرب العالمية الأولى. فالإستعمار الغربي قد حط بأقدامه في الأرض العربية منذ وقت بعيد.

ففي المشرق العربي، سبق البرتغاليون غيرهم من القوى الإستعمارية الغربية في الوصول إلى المنطقة العربية عن طريق الخليج العربي، مستهدفين الهيمنة على تجارة الشرق من خلال السيطرة على مدخلي البحر الأحمر والخليج العربي. وكان انطلاق أساطيل البرتغال نحو الشرق قد بدأ في عام 1497م، بقيادة فاسكو دي جاما.

أما مصر، فقد تعرضت للغزو الفرنسي عام 1798م، بقيادة نابليون بونابرت. وقد استمر ذلك الإحتلال حتى عام 1801م، حيث تم رحيل القوات الغازية بعد مقاومة عنيفة بقيادة الزعيم الوطني عمر مكرم تمكن خلالها الشعب العربي في مصر من أيقاع خسائر جسيمة في قوات الغزاة، وقتل قائدهم كليبير على يد المناضل السوري سليمان الحلبي.

وكان النفوذ البريطاني قد بدأ بالتزايد في المنطقة العربية، اثر انسحاب محمد علي باشا، والي مصر من بلاد الشام والأناضول والخليج العربي، حيث اعتمد العثمانيون على مجهودات بريطانيا السياسية والعسكرية في التصدي للباشا.

ومنذ بداية القرن التاسع عشر، أخذت أطماع البريطانيين بالتعاظم، حيث بدأ نشاطهم الإستعماري الجديد سنة 1809م، بتوجيه حملة عسكرية قصفت ميناء رأس الخيمة، ودمرت أسطول دولة القواسم العربية في الخليج العربي. وقد ووجه هذا الأسطول بمقاومة عنيفة من قبل الأهالي، مما دفع البريطانيين لتعزيز قوتهم بحملة عسكرية أخرى، استطاعت إرغام القواسم على توقيع معاهدة غير متكافئة، دعيت بمعاهدة السلم العام.

واتخذت بريطانيا بعد ذلك جملة من الترتيبات لحمل سائر شيوخ الخليج العربي على توقيع معاهدات مماثلة، منحت بريطانيا امتيازات سياسية تصل إلى حد الإشراف المباشر على شؤون الحكم في المشيخات والإمارات العربية على الساحل الغربي للخليج العربي.

وفي مراحل لاحقة اتجه البريطانيون بأنظارهم إلى مصر, وأصدرت الحكومة أوامرها إلى الأسطول البريطاني بضرب مواقع الإسكندرية الدفاعية. وفي 11 تموز/ يوليو عام 1882م، قامت سفن الأسطول البريطاني بقصف مدينة الإسكندرية واحتلالها. وبذلك بدأ عهد الإحتلال الإنجليزي لمصر، ومن ثم امتد ذلك الإحتلال إلى التدخل في الشؤون المباشرة للسودان.

ولم يكن الدور الفرنسي في الوطن العربي أقل ضراوة عن دور نظيره البريطاني. ففي نيسان/ ابريل عام 1827م، استغلت المجموعات الفرنسية الراغبة في احتلال الجزائر حادثة عرفت باسم حادثة المروحة، متخذة منها مبررا لاحتلال الجزائر. وإثر تلك الحادثة، شرعت قوات الإحتلال الفرنسي بالنزول على الشواطئ الجزائرية، وبدأت في التقدم برا حتى وصلت مدينة الجزائر. واستغلت حالة الضعف التي كانت عليه الحكومة الجزائرية آنذاك، ففرضت عليها معاهدة جائرة عام 1830م، تنازلت بموجبها الحكومة للقوات الفرنسية الغازية عن استقلال البلاد. وبذلك سقطت الجزائر تحت الإحتلال الفرنسي، وأنشئت فيها إدارة فرنسية عاثت في البلاد نهبا وفسادا.

وقد واصل الإستعمار الفرنسي محاولاته للهيمنة على بقية أقطار المغرب العربي، فتمكن من احتلال تونس في عام 1881م، بعد أن أجبر حاكمها الباي صادق على توقيع معاهدة باردو التي ضمنت لفرنسا حق الإشراف على الشؤون الخارجية والمالية للولاية. وإثر اندلاع الثورة الشعبية في صفاقس، أجبرت فرنسا الباي على توقيع معاهدة المرسي التي سلبت منه استقلاله في الشؤون الداخلية أيضا.

أما المغرب العربي، فقد جرى تقسيمه بين الفرنسيين والأسبان. فقد أعلنت فرنسا الحماية على فاس، واعتقلت سلطانها. وقامت أسبانيا باحتلال القسم المطل على المحيط الأطلسي من المنطقة الشمالية، وفرضت معاهدة على السلطان اعترف فيها بما احتلته أسبانيا من أراضيه. ثم تعززت هذه المعاهدة باتفاقية فرنسية أسبانية وقعت عام 1911م. وفي عام 1912م، أجبرت فرنسا السلطان عبد الحفيظ على توقيع صك الحماية الذي استسلم بموجبه للإستعمار الفرنسي تماما. وبموجب هذا الصك، أصبح المغرب مجرد "محمية" تابعة للحكومة الفرنسية تبعية كاملة.

وخلاصة القول أن الوجود الإستعماري الغربي، لم يكن أحد نتائج الحرب العالمية الأولى، بل سبقها بوقت طويل..

خاتمة

هكذا تتداعى جدليات الفكر السياسي السلفي، فيما يتعلق بالموقف من الوجود العثماني، الواحدة تلو الأخرى، وتعرى ذلك الوجود على حقيقته، باعتباره استعمارا عنصريا وتوسعيا، عاث تخريبا وفسادا بحق الأمة العربية، وعطل من نهوضها وتطورها.

وعلى كل، فإنه رغم كل ما عاناه العرب من اضطهاد ونهب من قبل الأتراك، فإنهم ليسوا مسؤولين بأي حال من الأحوال عن تداعي نفوذ الدولة العثمانية، ولا عن الخيارات القومية للشعوب التي كانت رازحة تحت هيمنتها.

فلقد سبقت شعوب وأمم أخرى الأمة العربية في المطالبة بالإنسلاخ عن الدولة العثمانية، وحققت استقلالها قبل الثورة العربية بوقت طويل. بل إن الأتراك أنفسهم كانوا سباقين إلى اختيار الطريق القومي. فقد قامت جمعية الإتحاد والترقي بزعامة مصطفى كمال أتاتورك بانقلاب عسـكري ضد مـا دعي بالخـلافة الإسلامية عام 1908م. وكانت أولى خطوات الإنقلابيين، بعد استلامهم السلطة، فصل الدين عن الدولة، واستبدال الحروف العربية باللاتينية، وإعلان العمل بدستور مدني، والبدء في تدشين مؤسسات الدولة على النمط الديموقراطي الغربي.

وقد أنكر القوميون الإتحاديون الأتراك على العرب ممارسة حقوقهم السياسية والقومية من جهة، بينما أكدوا، من جهة أخرى، على خصوصيتهم القومية، داعين إلى الإبتعاد عن تراث الإسلام وحضارته وثقافاته، يدفعهم إلى ذلك استهواء عنيف للأنماط الغربية في السياسة والإقتصاد والثقافة ومجالات الحياة الأخرى.

وذلك يعني أن العرب لم يكونوا وحدهم الذين اختاروا الطريق القومي، رغم أنه حق مشروع لا جدال عليه، ولكن الأتراك أنفسهم اختاروا ذلك الطريق. والفارق بين كلا الإختيارين أن الإختيار التركي للطريق القومي كان مصحوبا بنظرة استعلائية ليس فقط بحق العناصر والقوميات الأخرى، بل في جانب كبير منه بحق الدين والعادات والثقافات الإسلامية.

وفي هذا الإتجاه، كانت الخطوة الأولى التي خطاها الزعيم القومي التركي أتاتورك في مجال الثقافة، استبدال الحروف العربية التي كتبت بها لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. في حين كانت القومية العربية، ولا تزال تعبيرا عن حالة التواصل والتفاعل بين العروبة والإسلام.. كما كانت ولا تزال تعبيرا عن التواصل الحضاري للتاريخ العربي، والذي يشكل الإسلام الركن الأساس فيه. وخلافا للجانب الإستعلائي والعنصري في الحركة القومية التركية، فإن القومية العربية لا تهدف إلا لرفع الظلم عن كاهل العرب، وتأمين حقوقهم في الإستقلال وتقرير المصير، والتنمية، وتوحيد ما جزء من أقطارهم.